السلام وعليكم
بسم الله الرحمن الرحيم
نشأة الشِّعر الجاهلي
الشعر عند العرب هو الأثر العظيم الذي حفظ لنا حياة العرب في جاهليتهم، وإذا كانت الأمم الأخرى تخلد مآثرها بالبنيان والحصون فإن العرب يعولون على الشعر في حفظ تلك المآثر ونقلها إلى الأجيال القادمة. يقول ابن سلام: "وكان الشعر في الجَاهلية عند العرب ديوان علمهم ومنتهى حكمهم به يأخذون وإليه يصيرون. فالشعر عند العرب له منزلة عظيمة تفوق منزلة تلك الأبنية. ومع اهتمام العرب العظيم بالشعر إلا أننا لم نقف على محاولاتهم الأولى، وإنما وجدنا شعراً مكتمل النمو مستقيم الوزن تام الأركان.
لقد اجتهد عدد من الباحثين فحاولوا تعليل نشأة الشعر العربي، فمنهم من قال إن شعراء العرب عندما سمعوا وقع أخفاف الإِبل على الأرض قلدوها فأنشأوا الأوزان الشعرية وقد ساعدهم في ذلك الحُدَاء وهو سَوْقُ الإبل والغِنَاءُ لها. ومنهم من قال إن أصل الأوزان الشعرية السجع الذي تطور إلى بحر الرجز، ثم نشأت البحور الشعرية الأخرى. ومنهم من قال إن أصل الأوزان يرجع إلى الغناء فالعربي في صحرائه يحتاج إلى الترانيم والغناء فيأخذ مقاطع من الكلام يغني بها فتطور ذلك حتى أصبح شعراً موزوناً مقفى.
والشعر العربي قديم ولكن الذي وصل إلينا هو ما قيل في العصر الجاهلي، ومما يدل على قِدَم الشعر قول امرىء القيس:
عُوجَا على الطّلَلِ المُحيلِ لَعَلَّنَا نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابنُ حِذَامِ
وقول عنترة:
هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ من مُتَرَدَّمِ أم هلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّـم
فبكاء الديار في زمن امرىء القيس ليس جديداً فقد بكاها شعراء قبله منهم ابن حذام الذي لم يصل إلينا من شعره شيء، وأما عنترة فيقول لقد سبقنا الشعراء إلى المعاني فإذا قلنا شعراً فإنما نكرر معاني القدماء. وقد قال ابن سلام: "ولا نجد لأولية العرب المعروفين شعراً، ويرى ابن سلام أن أول ما وصل إلينا من الشعر قول العنبر بن عمرو بن تميم:
قَدْ رَابَني من دَلْوِيَ اضْطِرَابُهَا والنَأيُ في بَهـْرَاء وَاغْتِرَابُـهَا
إنْ لا تَجِئْ مَلأىَ يَجِئْ قِرَابُهَا
ووصلت إلينا بعد ذلك أشعار المهلهل بن ربيعة وامرئ القيس وغيرهم من شعراء الجاهلية، فأول من قصد القصائد وأكثر من قول الشعر الذي وصل إلينا هو المهلهل بن ربيعة التغلبي الرَّبَعِي، وعلى هذا تكون قبيلة ربيعة هي أول قبيلة عرف فيها الشعر، ومن شعراء هذه القبيلة في العصر الجاهلي: طرفة والحارث ابن حلزة والأعشى وعمرو بن كلثم. والشاعر الثاني الذي يلي المهلهل في القدم امرؤ القيس وهو شاعر قحطاني أصله من اليمن ولكنه عاش في نجد بين القبائل العدنانية، وشعره أقدم شعر جيد.
والقبيلة الثانية هي قبيلة قيس فقد اشتهر من شعراء هذه القبيلة في العصر الجاهلي عدد كبير منهم النابغة: الذبياني والنابغة الجعدي ولبيد بن ربيعة. وتأتي قبيلة تميم في الدرجة الثالثة فالشعر العربي نشأ ونقل عن هذه القبائل الثلاث، وهذا لا يمنع أن تكون قبيلة مضر بجميع فروعها تقول الشعر، وأن القبائل العدنانية والقحطانية فيها شعراء في العصر الجاهلي.
ومواطن نشأة الشعر الجاهلي بلاد نجد والحجاز والبحرين (شرقي الجزيرة العربية)، أما اليمن وعمان فلم تكونا موطناً لنشأة الشعر العربي؛ أما اليمن فكانت لغته في الجاهلية اللغة الحميرية، وأما عمان فكان يخالط سكانه الفرس والهنود.
ومن خلال تتبعنا لنشأة الشعر واكتماله يظهر لنا أن امرأ القيس هو رائد الشعر الجاهلي، لأن شعره هو أول شعر قوي مكتمل يتناقله الرواة.
وقد عاش امرؤ القيس في النصف الأول من القرن السادس لميلاد المسيح ويأتي بعد امرئ القيس من الشعراء المشهورين الحارث بن حِلِّزَة اليشكري البكري الرَّبَعِي. ويلي الحارث بن حلِّزة عمرو بن كلثوم، وبرز عنترة العبسي بعد عمرو بن كلثوم، ويلي عنترة زهير بن أبي سُلْمَى؛ فقد ذاعت شهرته على رأس المائة السادسة لميلاد المسيح، واشتهر لبيد بن ربيعة العامري الذي أدرك الإِسلام. فهؤلاء الشعراء وغيرهم هم الذين وصلت إلينا أشعارهم، وكلهم قد عاشوا في العصر الجاهلي، وأقدمهم لا يتجاوز خمسين ومائة سنة، فتكون مدة العصر الجاهلي خمسين ومائة سنة.